تقارير

ذكريات مؤرخ إسلامي.. حوار مع الأستاذ خالد الزعفراني حاوره دكتور ناجح إبراهيم (1)

ذكريات مؤرخ إسلامي معاصر .. الجزء الأول من أخطر حوار مع الشيخ خالد الزعفراني

حوار قديم أجراه الدكتور ناجح إبراهيم مع الأستاذ خالد الزعفراني رحمه الله، فأردنا نشره مرة أخرى لعموم الفائدة.

حاوره و قدم له د.ناجح إبراهيم

دكتور ناجح إبراهيم

يعد حوارنا مع الشيخ خالد الزعفراني من أقوى وأمتع وأفيد الحوارات التي أجريتها شخصيا .. وقد استمتعت فعلا بهذا الحوار واستفدت منه كثيرا ً ..حيث يعد الشيخ خالد من كبار مؤرخي الحركة الإسلامية ولكن أحدا لم يحسن الاستفادة منه.

ـ وقد جرى حواري معه على مدى عشر ساعات وفي عدة أيام .. وحضره بعض الإخوة الأفاضل الذين أشادوا بعمق الحوار وأهميته بالنسبة لكل من ينتمي للحركة الإسلامية .

ـ وتأتي أهمية هذا الحوار من أهمية وعمق شخصية الشيخ خالد الزعفراني نفسها .. فهو صاحب شعار الإسلام هو الحل .. ذلك الشعار الشهير والذي أصبح اليوم يعرفه العوام قبل الخواص .. فقد أطلق هذا الشعار في الوقت الذي تخوف فيه كثير من الإخوان المسلمين من ترك شعاراتهم القديمة (الله غايتنا والرسول زعيمنا والقرآن دستورنا…..الخ )

ـ وكانت بداية إطلاقه له بعد تأليفه كتاب (الإسلام هو الحل ) في بداية الثمانينات .. وأصبح الشعار الانتخابي لتحالف الإخوان و حزب العمل وحزب الأحرار في الانتخابات البرلمانية عام1987..وأصبح شعار الإسلام هو الحل الذي ابتكره الشيخ خالد الزعفراني هو شعار حزب العمل والأخوان في كل الانتخابات ..وبعد تجميد حزب العمل انفرد الأخوان بهذا الشعار.

ـ واليوم لا يكاد أحد يذكر شيئا عن صاحب هذا الشعار إذ أنه لا ينتمي اليوم إلى جماعة معينة تحميه وتحفظ حقه وتراعيه.

ـ والشيخ خالد الزعفراني هو أيضا صاحب شعار (الإصلاح هو الحل ) وهو أول من أطلق هذا الشعار في حملته الانتخابية لمجلس الشعب في كفر الشيخ والإسكندرية.

ـ والشيخ خالد الزعفراني من صناع الحركة الإسلامية المصرية المعاصرة التي بدأت في أوائل السبعينات .. ويعد أول من رد على شكري مصطفى بعد أن أيقن بطلان فكره ومنهجه .

ـ وهو من أوائل الذين بدأوا الدعوة الإسلامية المعاصرة في الإسكندرية ..  وأعطى زخما لدعوة الجماعة الإسلامية والإخوان بالإسكندرية – قبل الانفصال عنهما- حينما أسس مسجد عصر الإسلام الذي كان المركز الرئيسي للدعوة بالإسكندرية في السبعينات والثمانينات .. وقاده حتى انضمامه للأوقاف .

ـ وهو من أوائل الإسلاميين الذين بدأوا التحالف مع حزب العمل وتدرج في سلمه القيادي حتى وصل إلى منصب عضو بالمكتب السياسي وأمين حزب العمل بالإسكندرية .. وكانت علاقته جيده بكل ذوي التوجه الإسلامي في الحزب في الوقت الذي دس عليه ذوي التوجهات الاشتراكية عند قادة الحزب .

ـ وفي النهاية وجد أن حزب العمل لن يحقق من خلاله شيئا يذكر لخدمة الإسلام والدين.. وخاصة أنه حورب وهو في الحزب من كل الجهات حربا لا هوادة فيها .. سواء من الدولة أو من ذوي التوجهات الاشتراكية في الحزب .

ـ وأخيرا لم يجد بدا ً من تأسيس حزب جديد اسمه حزب( الإصلاح والعدالة والتنمية ).. وأصبح وكيل المؤسسين له.. ولكن هذا الحزب لم تتم الموافقة عليه إلى اليوم .. والله اعلم متى يرى النور .

ـ خمس مراحل طويلة مر بها الشيخ خالد الزعفراني من مراحل تعرفه على شكري مصطفى ورده عليه .. إلى مرحلة عمله مع الجماعة الإسلامية والإخوان بالإسكندرية .. إلى تحالفه مع حزب العمل وترشيح نفسه عدة مرات لمجلس الشعب .. إلى تأسيسه لحزب خاص به وبفكرته .

ـ هذه المراحل الطويلة منذ بداية السبعينات وحتى اليوم تعد فترات ثرية بالأحداث والأشخاص والاعتقال والحرية والصعود والهبوط .

ـ هذه الفترة عرف فيها مئات الشخصيات المؤثرة منهم على سبيل المثال لا الحصر.. الشيخ المحلاوي والشيخ محمود عيد وشكري مصطفى ..والدكتور الشيخ أسامة عبد العظيم شيخ السلفيين بالقاهرة..أ/مصطفى مشهور..الشيخ كرم زهدي.. أ/إبراهيم شكري.. أ/ عادل حسين..د/محمد إسماعيل المقدم .. د/إبراهيم الزعفراني ابن عمه  .. د/محمود حب الله رئيس قسم الأنف والأذن وأحد دعاة الجماعة الإسلامية ،د/صلاح الصاوي.. الشيخ إبراهيم قلقاس أحد علماء الأزهر المرموقين .. الشيخ محمد نجيب المطيعي ، الشيخ الألباني وغيرهم كثير ممن سيأتي ذكرهم في هذا الحوار الجميل  .

ـ والشيخ خالد الزعفراني على المستوى الإنساني من أحب الناس إلى قلبي .. وقد أحببته حبا شديدا بمجرد رؤيتي ومعايشتي له أول مرة في سجن استقبال طره 1981 .. وهو رجل بسيط لا يتكلف في الدين أو الحياة .. وليس له برستيج خاص به رغم مكانته الكبيرة فهو متواضع جدا وحنون جدا ً ..  وتلقائي بدرجة كبيرة

ـ وأهم ما يميزه هو الشجاعة والصدق وكل من قابله أو عاشره أو عامله أحبه حبا ً شديدا ً لهاتين الصفتين .. الإخوان يقولون عنه ذلك.. والأستاذ إبراهيم شكري  وغيرهم من قيادات الأحزاب كانوا يقولون عنه ذلك أيضا ً

ـ حتى شكري مصطفى كان يقول خالد راجل وشجاع وكان يحترمه حتى بعد رده عليه.

ـ وقد ورث الشيخ خالد هذه الرجولة والمصداقية من أسرته التي تعتبر تلك الصفات أعظم ما تورثه لأبنائها.

ـ وكل هذه المراحل والشخصيات سنتناولها في الأجزاء المختلفة من حوارنا مع الشيخ خالد الزعفراني الذي فتح لنا قلبه ليكون موقعنا أول مكان يحكى هذه الذكريات المفيدة ..والآن أصطحبكم أحبتي إلى الجزء الأول من هذا الحوار .

ـ نريد التعرف علي بطاقتكم الشخصية ؟

ـ الاسم : خالد عبد الرحمن الزعفراني .. من مواليد كفر الشيخ – قرية السالمية – مركز فوة – ومن أغرب الأشياء أنني من مواليد يوم الثورة 23 يوليو سنة 1952 .

ـ هل سميت خالد نسبة إلي  ” أبو خالد ” وهو اسم زعيم الثورة جمال عبد الناصر ؟

ـ لا .. لا .. لم يكن جمال عبد الناصر قد اشتهر بعد ونال هذا المنصب الكبير و الشهرة الواسعة .. ولكني سميت ولله الحمد علي اسم سيدنا خالد بن الوليد .. وكذلك كان هناك صديق لجدي اسمه خالد (متصوف) .

ـ نستكمل بطاقتكم التعارفية إذا ً ؟

ـ حصلت علي بكالوريوس معهد التعاون التجاري .

ـ وحصلت على ليسانس آداب لغة عربية جامعة طنطا.

ـ وحاصل على ماجستير معهد الدراسات الإسلامية بالزمالك .

ـ ما هي أهم مؤلفاتك ؟

ـ منها كتاب الإسلام هو الحل عام 1979 قبل أن يصبح الشعار المشهور.

ـ ومختصر تفسير الإمام الطبري الذي عرضته عام 1984 على الشيخ شعيب الأرناؤط أثناء زيارتي للأردن فقال لي : هذا التفسير أدق من تفسير الجلالين – الذي به بعض الهنات- ولو اجتهدت في نشره لطلبه الناس أكثر من الجلالين وقد تحققت و الحمد لله على يدي نبؤة الشيخ الأرناؤوط و انتشر مختصر تفسير الطبري .. و أصبح يضارع الجلالين ويتفوق عليه انتشارا.

ـ ما هي قصة بداية تدينك ؟

ـ الأسرة كان لها أثر .. ولكن الانقلاب الجذري و أنا عندي ستة عشرة عاما و ذلك بعد أن قرأت حديثين في فضل ختام الصلاة و هما ” من سبح الله دبر كل صلاة……الحديث” و الحديث الآخر ” من قرأ أية الكرسي دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ” فأصبحت لا أترك فرضا أو ختاما للصلاة ولم أنقطع عن المسجد.. و كنت قبل قراءتهما أتمنى أن أحافظ على الصلاة .

ـ حدثنا عن أسرتك .. وكيف كان أثرها عليك ؟

ـ أول من أثر فينا جميعا ً هو جدي عمر وهو أيضاً جد لعدد من رموز الصحوة الإسلامية.. وكان جدي متصوفا ً في الطريقة الرفاعية المعروفة في مصر .. ورغم أنه كان ثريا ً ويملك قدرا ً جيدا ً من الأرض إلا أنه كان شديد التصوف وكان زاهدا ً في الدنيا علي عكس عادة الأغنياء في هذا الزمان .

ـ وأنا نشأت منذ صغري فوجدت شيوخ وأتباع الطرق الصوفية موجودين بصفة شبه دائمة في بيتنا .. وحلقات الذكر وقراءة القرآن في رمضان وغير رمضان.

ـ وكان يحضر أهل التصوف إلى البيت ويختاروني من بين أولاد الأسرة لكي أمسك الثعابين وحدي .. وهذا مشهور في الطريقة الرفاعية حتى اليوم.. و أصبحت أميل إلى التصوف و المتصوفة.

ـ أما والدي فقد كان يتمتع بصفات جميلة من أهمها الشجاعة والرجولة و الشهامة والتمسك بالحق مهما كانت العواقب وكان لا يخاف إلا الله .. وهذه الصفات انتقلت تلقائيا ً في جينات أبنائه جميعا ً .. ولعل هذه الشجاعة كانت سببا ً في مشاكل كثيرة تعرضت لها في حياتي .

ـ وعمي خليل كان قد أتم تعليمه الثانوي وهذا يعد تعليما ً جيدا ً في هذا الزمان وخاصة في القرى  .. وكان عمي يحفظ السيرة عن ظهر قلب ولا يقرأ من كتاب.. وكان يشرحها شرحا ً رائعا ً مبسطا ً جميلا ً يستهوي النفوس والقلوب .

ـ وكان عمي كذلك يحفظ قصص الملاحم وأبطال العرب .. وكان والدي وعمي يزرعان في غلمان وشباب الأسرة صفات الرجولة والشهامة والصدق وعدم الجبن وقول الحق.. ويعودونا علي الجدية و الرجولة وتحمل المسؤولية أمام الناس .

ـ هل كان لهذه التربية أثر مبكر فيكم ؟

ـ نعم .. فكل حياتنا تقريبا ً هي نتاج لهذه التربية المبكرة .. وأول من بدأ الدرس العلمي في الرجولة هو ابن عمي المهندس حمزة الذي استشهد في حرب أكتوبر ولا نزكيه علي الله .. وكان حمزة متدين إلي أبعد الحدود وهو الذي بدأ الالتزام المعروف في الحركات الإسلامية في أسرتنا .. وكان يتكلم بصدق دائما ً عن الشهادة في سبيل الله وعظمتها فنالها بشرف وشجاعة في حرب أكتوبر .

ـ هل لك أن تحدثنا عن ابن عمك حمزة وأثره عليك ؟

ـ ابن عمي حمزة كان من أحب الناس إلى نفسي ..  وحمزة كان في كلية الهندسة والتزم دينيا ً علي يد الدكتور أسامة عبد العظيم أستاذ أصول الفقه في جامعة الأزهر و الشيخ المشهور في المدرسة السلفية الآن .. وكان وقتها طالبا ً في كلية الهندسة بالإسكندرية .

ـ هل معني ذلك أن بداية التزام أسرة الزعفراني بالحركة الإسلامية كانت علي يد الشيخ أسامة عبد العظيم شيخ المدرسة السلفية بالقاهرة ؟

ـ نعم .. أول واحد دخل في الحركة الإسلامية من أسرتنا هو ابن عمي المهندس حمزة .. علي يد الشيخ أسامة عبد العظيم .. ولما عاد حمزة من الكلية في الأجازة الصيفية جلست معه كثيرا ً وقرأنا سويا ً رياض الصالحين وحوالي ثلاثة أجزاء من فقه السنة .. وأنا أعتبر أن هذه هي بدايات التزامي الحقيقي بالحركة الإسلامية .

ـ ولكن كيف استشهد المهندس حمزة رحمه الله ؟

ـ كان حمزة رحمه الله ضابط احتياطيا ً في الجيش المصري .. وكان شجاعا ً جدا ً .. وكان يقف مع قائده في موقعهما بالجبهة في حرب أكتوبر فرأي طائرة إسرائيلية تقترب منهما فقام  بدفع قائده إلي الحفرة لينجو .. ثم حاول النزول هو فكانت الدانة أسرع من قفزته فأصابته إصابة مباشرة ليتحقق له ما أراد .

ـ والحقيقة أن هذه الأيام كلها كانت مملوءة بأجواء طيبة من حب الشهادة والترحيب بالموت في سبيل الله ورغبة الجميع في المشاركة في المعركة .

ـ وعلي فكرة كان ابن عمي معلما ً ومربيا ً لشباب الأسرة في حياته وفي مماته أيضا ً .. ولعل قصة استشهاده في سبيل الله ألهبت فينا الحماس للدين والعزيمة علي التضحية في سبيله حتي اليوم .

ـ ماذا عن دراستك الثانوية والجامعية ؟

ـ في المرحلة الثانوية كنت متفوقا ً في الدراسة إلي الصف الثاني الثانوي .. وبعدها بدأت انشغل بعيدا ً عن الدراسة حيث انشغلت بالقراءة في الكتب الدينية وحدي في القرية دون معلم أو موجه .. والمصيبة أنني حينما بدأت أقرأ في كتب الدين قرأت في كتاب الفقه علي المذاهب الأربعة بكل تفريعاتها ومسائلها الصعبة .

ـ والمصيبة الأكبر أنني كنت في شبابي متحمسا ً لأبعد حد لتطبيق كل ما ورد في كل الآراء والمذاهب وليس حتى مذهب واحد .. وهذا فيه مشقة شديدة .. وأنا أتذكر جيدا ً أن كتاب الفقه علي المذاهب الأربعة للدكتور / عباس كرارة كان يوزع في الحج في مكة وكان في مكتبة الأسرة.

ـ وأدي ذلك إلي عنت شديد بالنسبة لي ومشقة شديدة حيث كنت أطبق كل المذاهب الأربعة في كل شيء .. كيف ؟ لا تعرف ؟!!

ـ هل كان عندك أسس علمية وشرعية قبل قراءة هذا الكتاب المتوسع جدا ً ؟

ـ لم يكن هناك أساس أو أي قاعدة ولا احتكاك بأحد .. وكان البناء علي غير أساس .. وكأنني كنت أريد أن أبني الدور العاشر في عمارة قبل الأساس والدور الأول .. ورغم أنني في ذلك الوقت لم أكن أعرف كثيرا ً عن أحكام الصلاة .. إلا أنني قرأت في كتاب ” الفقه علي المذاهب الأربعة ” أن الذي يترك فرضا ً من فروض الصلاة يكون كافرا ً .. من يومها أصبح مستحيلا ً أن أجمع فرضين أو أترك فرضا ً ..” وإلا تكون الدنيا انهدت ” .. هكذا الحكم دون استثناءات أو ما شابه ذلك .. فلو كنت مسافرا ً أوقف السيارة وأنزل أصلي .. والمشكلة لو كنت مسافرا ً مع آخرين .

ـ بعد نجاحك في الثانوية العامة التحقت بالمعهد العالي للتعاون التجاري .. هل سهولة المعهد علميا ً سهلت لك التفرغ للنشاط الإسلامي الحقيقي ؟

ـ هذه حقيقة .. وأنا علي سبيل المثال كنت أحضر في العام كله أربع أو خمس محاضرات .. وعمري ما عملت كراسة محاضرات في المعهد .. والمذاكرة لم تكن جادة وقوية إلا في البكالوريوس وفي الشهر الأخير .. وكنت في السنوات العادية أذاكر ليلة الامتحان فقط .

ـ وفي هذه السنوات بالذات تعرفت علي شكري مصطفي ومجموعته .. وانضممت إليه في البداية ثم تيقنت سريعا ً أنه علي باطل .. وقلت ما دمت عرفت الحق فلابد من إعلانه للجميع .. حتى جعلني الله سبباً في تفريق الناس من حول شكري وتعريفهم ببطلان دعوته .

ـ قبل دعوة شكري مصطفي لك للانضمام لجماعته هل كنت تعرف شيئا ً عن دعوة الخوارج ؟

ـ نعم كنت أعرف الكثير والكثير عن الخوارج .. وهذا شيء غريب علي شاب صغير لم يتعلم في الأزهر ونشأ في قرية أن يعرف ذلك .. ولكن كان هناك سر عجيب في ذلك .. ولعل الله ساقه إليّ مبكرا ً حتى تتكون لدي حصانة قوية من فكر شكري مصطفي لأن القدر وضع كل منا في طريق الآخر .

ـ هذا السر يكمن في شيخ أزهري كفيف من قريتنا وكان سمعه ضعيفا ً أيضا ً إلا أنه كان متفوقا  جدا ً .. وكان قد حصل علي امتياز في كلية أصول الدين وأصبح الأول علي الكلية .. كما حصل علي رسالتي ماجستير وسلمه الرئيس عبد الناصر وقتها جائزة من أجل تفوقه ونبوغه النادر .

ـ وهذا الشيخ الفاضل العالم هو الشيخ / إبراهيم قلقاس .. وهو علي قيد الحياة حتى الآن مد الله في عمره وبارك فيه .. ولو أتيحت له الفرصة لأصبح من كبار علماء الأزهر .. ولكن كف بصره  وضعف سمعه وقلة الحيلة جعله يقبع كإمام بسيط في مسجد قريتنا.

ـ وهذا الرجل هو أول شخص وضع قدمي الأولى علي طريق العلم الصحيح وذلك عندما قرأت عليه في الصيف صحيح مسلم بشرح النووي الذي كانت تطبعه دار الشعب .. وكنت كلما قرأت له جزء ً شرحه لي .. فقرأنا باب الإيمان الجزء الأول.

ـ ولذلك أول ما قابلت شكري مصطفي زعيم التكفير وشرح لي أفكاره وآراءه قلت له : ما الفرق بيننا وبين الخوارج ؟

ـ فقال لي شكري : لقد تناقشت مع مئات غيرك .. وهذه أول مرة واحد صغير زيك يتكلم معي علي الخوارج بهذا الإسهاب وهذا الشكل .

ـ وقال لي : حتى الإخوان أنفسهم عندما كانوا يناقشونني لم يذكروا لي سيرة الخوارج بالشكل ده “.. وظلت كل مناقشاتي مع شكري تنتهي إلي هذه النقطة : ما الفرق بيننا وبين الخوارج ؟ .

ـ إلي هذا الحد رغم أن عمرك وقتها لم يتجاوز 18 سنة ؟

ـ نعم فالشيخ كان متفرغا ً وأنا أكثر منه تفرغا ً .. وأنا أقرأ له وهو يشرح لي شرحا ً مستفيضا ً .. ويا أخي كتاب الإيمان للنووي في شرح مسلم له بركة عجيبة في هذا الأمر.

ـ والحقيقة الأخرى المهمة أن شكري مصطفي لم يكن لديه علم وكان عنده جدل فارغ .. ولكن المشكلة أنه لم يجد أحدا ً يحاجه ويدفع حجته بحجة أقوي منها .. ولم يتنبه الإخوان ولا علماء الأزهر لخطره إلا متأخرا ً جدا ً

ـ إذا ً أنت تدشن لنا بداية قصة شكري مصطفي ثم بعد ذلك قصتك معه ؟

ـ عندما سكنت بالقاهرة عقب دخولي المعهد التجاري سنة 1971 .. كان شكري مصطفي قد خرج من السجن قبل الإخوان الآخرين .. وفي هذا الوقت كانت جماعة شكري تتكون من ثلاثة أفراد فقط هم : شكري نفسه ، وماهر ابن أخته ، وشخص ثالث اسمه حمدي بكري لسه بيشاور نفسه علي رأي المثل المصري .. وجاء شكري ليعيش في القاهرة بدلا ً من أسيوط .

ـ وكان هناك أخ ملتحي يبحث عن سكن في القاهرة فلم يجد فأشفقت عليه وأسكنته معي ففوجئت أنه كان مع شكري في السجن ويحمل بعض أفكاره غير أنه لم ينضم إليه .. فعرفني علي شكري الذي جاءني سريعا ً وكنت أسكن غرفة وحدي .. فكان يمكث معي أوقاتا ً طويلة جدا ً يعرض لي أفكاره فأقول له ما الفرق بين هذا الكلام .. وكلام الخوارج .. ولا نصل إلي حل في كل مرة .

ـ لماذا لم تسأل عنه الإخوان.. فقد كان معهم في السجن ؟

ـ نعم سألت عنه كل من أعرفه من الإخوان وقتها فشكروا لي في شكري وقالوا : إنه مخلص ولكن أفكاره متشددة شويه .. ولم يشيروا أبدا ً إلي أنه خوارج أو ما شابه ذلك إطلاقا ً .

ـ وبعضهم قال لي : إن مواقفه ضد إدارة السجن كانت قوية .. وأنت تعلم نفسية شاب مثلي سنه 18 سنة يميل إلي التشدد والقوة .. وقراءات تأخذني إلي التمسك بالعزائم .. ولكن كلام الشيخ إبراهيم قلقاس كان عامل عندي توازن إلي الآن .

ـ لماذا لم تذهب إلي علماء الأزهر وقتها لتعرض عليهم فكر شكــــري ليردوا عليه ؟

ـ لقد أخذت كراسة شكري وذهبت بها إلي الشيخ الغزالي رحمه الله وقلت له : يا مولانا هذا الفكر جاء إلي القاهرة وسوف ينتشر وأرجو أن ترد عليه .. فقال لي : لن ينتشر واهتم بدراستك وشوف دراستك ولما تخلص كليتك أهتم بهذه الأمور .

ـ ثم ذهبت للشيخ سيد سابق وكررت علي سمعه خطورة انتشار الفكر وقلت له : يا مولانا بصراحة الفكر ده سوف ينتشر وسيكبر .. ولكنه لم يهتم .. وذهبت إلي أنصار السنة والجمعية الشرعية وكنت أتردد عليهما .. ولكن دون جدوى .

ـ هل هذه الكراسة هي الكراسة التي كتبها الدكتور / محمود حب الله رئيس قسم الأنف والأذن حاليا ً.. ومن دعاة الجماعة الإسلامية الشهيرين ؟

ـ نعم لقد كان للدكتور محمود حب الله خط رائع .. وكان صديقا ً حميما ً لي لا يرد لي طلبا ً .. فطلبت منه أن يكتب نسخة من كشكول شكري بخطه الجميل .. فكتبه من أجلي .. وكلما قرأ فيه شيئا ً يقول ” الكلام ده غريب قوي ” .. ويقرأ كلاما ً غيره فلا يفهمه ويقول لي ” فسر لي هذا الكلام المتلخبط ” .. وتارة يقول لي لن أكتب هذا الكلام.. وتارة يقرأ فقرة يعجب بها ويقول ده كلام ممتاز .

الدكتور محمود كان يكتب وهو غير مقتنع ولكن حبه لي جعله يكتبه .

كيف سمح لك شكري مصطفي بمناقشته رغم أنه كان لا يحب من يناقشه كثيرا ً أو يعترض علي فكرته ؟

ـ هذا سؤال جميل في الحقيقة .. ولكن الشيء الغريب في الأمر أن شكري أحبني حبا ً شديدا ً لدرجة أن الذين من حوله تضايقوا من ردي عليه .. ثم يصرفهم ويقوم ليحضنني ويقول لي : أنت مخلص يا خالد وأنا بحبك .. بل كان شكري يتشكك كثيرا ً فيمن يوافقونه بسرعة ومباشرة .. لدرجة أنه كان متشكك في شخص قريب منه جدا لا داعي لذكر اسمه  وقال لي: يا خالد أنا متشكك في فلان هذا وعايزك تشوفه .. ده دخل مرة واحدة .. ده مباحث ولا إيه .. حتى أنه قال لي: امشي وراه وشوفه رايح فين وجاي منين.

ـ هل يمكن أن تحلل لنا شخصية شكري مصطفي ؟

ـ سأحكي موقفا ًواحداً ومنه تستنبط بعضا ً من جوانب شخصيته .. فقد كنت واقفا ً معه في المعادي في السبعينات فجاءت معزة ومأمأت فقال لها شكري :- إمشي دوشتينا ( أي أزعجتينا ) .. فقلت له يا أخي دي بترحب بينا فقال : يا ريت يا خالد تكون نظرتي للحياة متفائلة كنظرتك لها .

ـ فقد مر شكري في حياته بظروف صعبة جدا ً حيث أن والده قد طلق والدته .. ونشأ نشأة قاسية شديدة .. وعاش شبه وحيد أسريا ً .

ـ وهو لم يكن منضما ً خارج السجن انضماما ً قويا للإخوان ولكن موضوع دخوله السجن كان عن طريق أخ من الإخوان اسمه محمد منيب يعمل في مكتبة جامعة أسيوط .. وكان الأخير تابعا ً لأسرة من أسر الإخوان فلما قبضوا عليه قبضوا علي كل من يعرفه ومنهم شكري مصطفي .. فدخل السجن وهو شاب صغير ” طفشان ” من أسرته وكان اهتمامه بالجمعية الشرعية أكثر من اهتمامه بالإخوان .. ومحمد منيب رحمه الله مات من التعذيب .. فبدأ التركيز علي شكري مصطفي من أجل أن يقول كل ما يتعلق بمحمد منيب .

ـ وشكري صعيدي وعنيف وعنيد والتعذيب أوجد وركب عنده كل العقد مع بعضها .. فانقلب هذا الانقلاب الشديد . 

ـ ولكن كيف بدأت فكرة التكفير تلمع في رأس شكري؟

ـ مجموعة الشيخ سيد قطب رحمه الله كلها قبض عليها سنة 1965.. و في 1966 أعدم الشيخ سيد قطب والشيخ عبد الفتاح إسماعيل و تم تخفيف الحكم على الباقين الذين حاكمتهم المحكمة العسكرية .

ـ وبعد ما قامت حرب 1967جمعوا من رفض تأييد عبد الناصر في أول الحرب في زنازين كانت تسمى وقتها زنازين شمال.. و كان عددهم يقارب ثلاثين شخصا و كان منهم الأستاذ محمد قطب و الشيخ علي إسماعيل و شكري مصطفى و معهم آخرين مثل الحاج محمود شكري من الإسكندرية .

ـ و داخل هذه المجموعة كانت تدور أفكار المرحوم سيد قطب رحمه الله و لكنهم لم يستطيعوا بلورتها بلورة صحيحة.. ولكن بعضا من هذه المجموعة خرجت بفكر التكفير المعروف.. و بداية هذا الفكر أنهم قالوا أن المجتمع حاليا مجتمع جاهلي يشبه المجتمع المكي في بداية الدعوة .. و أن الناس كفرة ولابد أن ترجع للإسلام من جديد.

ـ وأنا مقتنع شخصيا بأن مؤسس ومنظر فكر التكفير الحقيقي هو الأديب الأستاذ محمد قطب .. ولكنهم اصطدموا بأن هناك أحكاماً و فرائض موجودة و مطبقة لم تكن قد أنزلت في العصر المكي بل نزلت في المدني مثل صلاة الجمعة والجماعة وأحكام كثيرة من أحكام الزواج والطلاق والأسرة ونحوها.. و كان جل كلامهم فلسفيا وأدبيا لا يستند على الآيات و الأحاديث و أقوال العلماء و السلف.

ـ وكان معهم الشيخ علي إسماعيل شقيق المرحوم عبد الفتاح إسماعيل الذي أعدم مع الشيخ سيد قطب و كان طالبا بالدراسات العليا في الفقه المقارن بالأزهر.. فبدأ يقنن لهم المسائل و يحاول ضبطها لهم.. وقال لهم ( كده سنقول الناس كفرة و إحنا في العصر الجاهلي).. وهذا غير مناسب ولكن علينا أن نتوقف في الحكم على إسلام الناس حتى نتبين إسلامهم .

ـ  ومن هنا نشأ (التوقف و التبين) .. وأصبح الشيخ علي إسماعيل رئيساً لمجموعة من 12 شخصاً .. بينما استمر الأستاذ محمد قطب ومعه مجموعة من الشباب آنذاك منهم محمد إبراهيم سالم و مصطفي الخضيري و المأمون و عبد المجيد الشاذلي و غيرهم ممن أصبحوا  زعماء للفكر القطبي فيما بعد .

ـ وماذا عن الشيخ علي إسماعيل هل استمر على هذا الفكر ؟

ـ كانت مجموعة الشيخ علي مكونة من 12 فرداً.. و بعد الأخذ و الرد و النقاش تحولت إلى 5 أفراد فقط .. لأن فكر التكفير هو فكر انشطاري بطبيعته فهو يفرق ولا يجمع .

ـ ولما بدأت الكتب تدخل السجن و يسمح بها .. قرأ الشيخ علي إسماعيل كتاب (الملل و النحل) و كان من أول الكتب التي دخلت السجن .. و بعد أن قرأه قال لشكري و الأستاذ محمد قطب و من معهم في السجن: هذا الفكر هو فكر الخوارج و ذلك لأنه كان عندهُ فقه و علم من دراسته بالأزهر.

ـ وصلى الفجر ثم وقف يتكلم قائلا: أنا أنخلع من هذا الفكر كما أخلع ثوبي هذا.. و خلع جلبابه أمام الناس في منظر مهيب قل أن يتكرر مقلدا الإمام الأشعري رحمه الله الذي فعل نفس الأمر عندما ترك أفكاره ..و مرسيا بذلك سنة حسنة في الرجوع إلى الحق كادت أن تندثر.

وماذا كان موقف الباقين من انخلاع الشيخ علي إسماعيل من فكر التكفير ؟

ـ هم للأسف تمسكوا بفكرهم الخاطئ و قالوا له: أنت كافر .. وأصبح لهم أمير يسمى عبود من الإسكندرية ولكنه ترك هذا الفكر أيضاً فأصبحوا ثلاثة فقط هم شكري مصطفى و صبحي الخضري من أسيوط و هو شقيق زوجة شكري و عبد الحميد الجمال من القاهرة وهو الذي سكنت معه قدرا بالقاهرة وعرفني على شكري .

ـ وما هو موقف الأستاذ محمد قطب و مجموعته ؟

ـ الأستاذ محمد قطب كان عنده حرص على وحدة الإخوان و كان يوليها اهتماما أشد من اهتمامه بالعقائد .. فلما أرسل له المستشار الهضيبي الأب رحمه الله قائلا له : أنت فرقت الجماعة و صنعت فكرا جديدا و هذا لا يجوز ولا يصح منك.

فقال الأستاذ محمد قطب لمن معه: أنا لا أحب أن أقف موقفا يفرق جماعة الإخوان وفي نفس الوقت فإن أفكارنا صحيحة .. و الحل هو أن نذوب في الأخوان و تظل أفكارنا في داخلنا كما هي ولا نقولها لأحد حتى نخرج من هذه المحنة.

وهذه القصة سمعتها من أطراف عدة ثقات و هم على قيد الحياة و كذلك سمعتها من شكري الذي كان لا يكذب عامة وعليّ خاصة .. حيث أن كان يعتقد دوما أنني بطل و شجاع.. و قد قال لي شكري إن الأستاذ محمد قطب كان يفضل الفكر عن العقائد و يقدم كذلك الأدب و السياسة على المسائل الإعتقادية و الفقهية .. و الجماعة عنده هي الأهم دائماً مهما كانت الأفكار و العقائد و الاتجاهات .

ـ هل لهذا الكلام السابق دلالة عندك ؟

ـ نعم له دلالة هامة.. وهي بداية (مبدأ التقية) عند القطبين منذ هذه الأيام و مازال هذا المبدأ ساريا عندهم بدرجة أو بأخرى.. صحيح أنه أقل بكثير من الشيعة ولكنه موجود.

ـ وهذا المبدأ كان سببا في خلل كبير بعد ذلك في السبعينات و الثمانينات.

ـ وأنا هنا لا أقدح في أحد ولكني أذكر الوقائع التاريخية المجردة .. وهي وقائع صحيحة يعرفها القاصي و الداني ممن عاش هذه الأيام.

ـ يري البعض أن شيوع فكر التكفير في السعودية في السنوات الماضية يرجع إلي الدعوة الوهابية نفسها لأسباب كثيرة داخل هذه الدعوة .. في حين يري البعض الآخر خطأ هذه النظرية وأن الدعوة الوهابية بريئة من ذلك  تماما ً .. ولكن السبب الحقيقي في انتشار فكر التكفير في السعودية في العشر سنوات الماضية  هو وجود الأستاذ محمد قطب وتلاميذه المصريين منذ فترة طويلة في السعودية  ..وتأثر مجموعة كبيرة من الشباب السعوديين به؟

ـ فما رأيك في ذلك؟

ـ أرى أن الدعوة الوهابية لا علاقة لها بتاتا ً بالتكفير.. والشيخ محمد عبد الوهاب كان يعذر بالجهل .. وكان لا يكفر أحدا ً من المسلمين بذنب أو معصية أو حتى في حالة  الوقوع في كفرً أو شرك ما لم تتحقق الشروط وتنتفي الموانع.. وكذلك سلك تلاميذه مسلكه .. ولكن الأستاذ محمد قطب رغم مكانته ومكانة أسرته الدينية إلا أنه حمل فكر التكفير والتوقف بشكل أو بأخر إلي السعودية.. وخاصة بعد إشرافه على عدد من الرسائل الجامعية التي حملت بصمته الفكرية هناك .. كما أن تعيين تلميذه الأستاذ/ عبد المجيد الشاذلي (وهو المنظر الرئيسي للفكر القطبي حاليا) أستاذا ً في الجامعة  السعودية وكان سببا ً إضافيا ً لانتشار فكر التكفير والتوقف والتبين وعدم العذر بالجهل في السعودية..  وقد ألف الشاذلي كتاب (الحد الفاصل بين الكفر والإيمان) والذي يعد تأصيلا لهذا الفكر.. ولا يعد ذلك قدحا في الأديب الكبير الأستاذ محمد قطب ولكنه عرض لأمر تاريخي ينبغي الصدق فيه.

ـ وإلى هنا ينتهي الجزء الأول من حوارنا مع الشيخ خالد الزعفراني آملين أن نلقاه على خير في الجزء الثاني من هذا الحوار الهام والذي سيحكي فيه قصته الكاملة مع جماعة التكفير والهجرة التي أسسها شكري مصطفى ..وهي قصة هامة جدا وفيها من العبر والعظات الكثير والكثير والكثير.

ـ إلى الجزء الثاني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights